جمعت القمرية أو الشمسية في ألواحها الزجاجية، وعناصرها الزخرفية، وألوانها البهية وأشكالها الهندسية بين القيم الشكلية والجمالية والفوائد العملية والتطبيقية، وساهمت مع فن المشربية في رسم هوية العمارة الإسلامية حيث أضفت على المباني والمنشآت رونقا وإشراقا من الخارج وراحة وطمأنينة من الداخل، وخففت الأحمال على الدعامات والأساسات، ودفعت عنها جيوش الحشرات والرمال وأشعة الشمس وحرارتها، والعواصف والأمطار، ووفرت لها الضوء المناسب في قيظ الصيف وغيوم الشتاء. كما وفرت الخصوصية والحماية من عيون العابرين ونظرات المتطفلين. وقد انتشرت في الجوامع والمستشفيات والفنادق والمدارس والمنازل والقصور وسائر المنشآت.

أطلقوا عليها اسم القمرية، أو الشمسية، أو ستائر الضوء الزجاجية، أو الزجاج المعشق بالجص (الجبس)، واختلفت أشكالها وأحجامها وألوانها وزخارفها باختلاف الأزمنة والعصور.

بدأت أولا بالمساجد والمدارس وانتقلت إلى القصور والمنازل. وظهرت في سائر المنشآت على امتداد العالم الإسلامي وقد تأثرت بالفنون في الحضارات المجاورة والمحلية، التي جمعت بينها الفنون الإسلامية، في وحدة تقوم على عمق الإيمان وروعة الإتقان، تراها في الجزيرة العربية والشام وبلاد الرافدين ووادي النيل وشمال إفريقيا والأندلس وإيران وتركيا وباكستان وأفغانستان، وإندونيسيا وماليزيا والشيشان وألبانيا والبوسنة والهرسك وسائر المناطق التي دخلها أو وصل إليها الإسلام في أوروبا وأمريكا وإفريقيا واستراليا وفي القاهرة وحدها أكثر من 100 أثر من هذا النوع عبارة عن نوافذ زجاجية من العصور المختلفة الطولوني والفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني.


تطور فن القمرية

ترجع أقدم نافذة زجاجية في المتحف الإسلامي في القاهرة إلى أواخر القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) وهي من جامع الأمير قجماس أحد أمراء السلطان قايتباي.

لم يستخدم الزجاج في هذه النوافذ أول الأمر، بل اقتصرت على ألواح وأشكال من الحجر الجيري أو الرخام أو الجص، تتم زخرفتها بطريقة التفريغ، وكانت معظم الزخارف هندسية، أضيفت إليها فيما بعد الزخارف النباتية والكتابة العربية والجص هو الجبس أو كبريتات الكالسيوم المائية وهو موجود بوفرة على سواحل البحر الأحمر.

تختلف الفتحات وتتنوع أيضا حسب طبيعة المبنى وموقعه في الجامع والضريح غير المنزل والقصر غير المستشفى والمدرسة، ومن أمثلتها في العصر الطولوني جامع أحمد بن طولون حيث قامت أعلى كل الدعامات التي تحمل العقود، وعند ملتقى كل عقدين، لتخفيف الأحمال على الأعمدة، وكانت عبارة عن فتحات شبكية من الجص، ذات أشكال هندسية بسيطة وجميلة يمكن من خلالها رؤية السماء. منها 4 نوافذ فقط ترجع إلى بداية إنشاء الجامع، أما النوافذ الأخرى فقد أضيفت في العصور التالية، ومعظمها يرجع تاريخه إلى ما بعد الإصلاحات التي قام بها السلطان حسام الدين لاجين (696ه 1296م).

تطور فن القمرية في العصر الفاطمي تطورا كبيرا، وظهرت النوافذ الزجاجية بأشكال جديدة ومبتكرة ظهرت عليها العناصر الزخرفية بصورة أقرب ما تكون للواقعية وازدادت الأرضيات عمقا وتفريغا وامتدت الزخارف لتشمل الأفاريز والشرائط.

ظهر ذلك بوضوح في مسجد الحاكم بأمر الله (380 403ه، 990 1012م)، الذي استخدمت فيه الزخارف النباتية والخطوط العربية خاصة الخط الكوفي.

بدأ العمل به على يد الخليفة العزيز بن المعز لدين الله، وأكمل عمارته ولده الحاكم بأمر الله (393ه 1003م) وتظهر على الشريط السابع للمئذنة الشمالية، وعلى الإفريز زخارف نباتية، وفي الشمال الغربي زخارف هندسية وأشكال نجمية.


مسجد ابن رزيك

كما تظهر في آخر مساجد الفاطميين وهو مسجد الصالح طلائع بن رزيك (551ه 1160م). على خواصر العقود، ودوائر جصية مزخرفة الوجهين، وسطها مفرغ، عليها أشكال هندسية ويعلو كل عقد شباك صغير مفرغ عليه زخارف نباتية وتزين صدر رواق القبلة شبابيك جصية مفرغة برسوم دقيقة محلاة بزجاج ملون ومن حوله كتابة بالخط الكوفي.

ومن أشهر آثار العصر الأيوبي في استخدام النوافذ الزجاجية ضريح الملك الصالح نجم الدين أيوب (640ه 1243م) الذي أنشأته زوجته السلطانة شجرة الدر بشارع المعز أمام مجموعة قلاوون، وأيضا قبة مسجد الإمام الشافعي التي أنشئت (608ه 1211م)، بنوافذها الجصية، وزخارفها النباتية، ويحيط بها إطار مكتوب عليه الآية الكريمة “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم”.

ومن أمثلة أعمال الزجاج في العصر المملوكي مسجد الظاهر بيبرس (665 667ه، 1266 1268م) وهو من النماذج الباقية حتى الآن، التي تبين مدى ازدهار هذا الفن في هذا العصر، بزخارفها الهندسية والنباتية وكتاباتها الكونية وأشكالها النجمية. ومنها أيضا نوافذ جامع الناصر محمد بالقلعة (695 703ه، 1296 3031م)، ومجموعة السلطان قلاوون بشارع المعز، وتتكون من مدرسة وقبة ومستشفى، ويتجلى هذا الفن داخل قبة الضريح التي تحتوي على 22 شباكا.

وأيضا مدرسة السلطان حسن (735ه 1334م)، وقصر بشتاك (735ه 1334م).

استمر التطور والتنوع في فن ستائر الضوء الزجاجية خلال العصر العثماني، وانتشر في المساجد والمساكن سواء بسواء، وامتزج مع فن المشربية على واجهات المنازل والقصور في تكوينات جميلة رائعة، من أمثلتها مسجد المحمودية (975ه 1567م).

وحل الخشب في بعض الأحيان محل الجص كما في مسجد محمد علي بالقلعة (1246ه 1830م). ومن أمثلة فن القمرية في هذا العصر بيت السحيمي وسراي المسافرخانة بالجمالية وبيت زينب خاتون وبيت الهراوي بالأزهر.


قصر من الزجاج

يقوم فن الزجاج المعشق بالجص على دراسة أبعاد المكان، والظروف المحيطة به وطبيعة المبنى لتحديد موقع الفتحات وحجمها وشكلها ومستوى ارتفاعها.

يتم إعداد التصميم الخاص بالفتحة وتحديد المقاسات والمواصفات والارتفاعات ويلي ذلك صب القالب داخل إطار من الخشب ويتم طبع التصميم على سطح الجص ويترك حتى يجف، ويتم الحفر عليه، وآخر المراحل هي تركيب الألواح الزجاجية.

ولا تزال الفنون الإسلامية محل اهتمام على امتداد الساحة في العالمين العربي والإسلامي وفي الفترة من 3 9 ديسمبر 1995 عقدت ندوة دولية للحرف التقليدية الإسلامية بالقاهرة بالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ومركز الأبحاث والتاريخ والثقافة والفنون الإسلامية باسطنبول بتركيا (أرسيكا) شارك في الندوة الخبراء والمتخصصون في هذه الفنون ومنها القمرية والمشربية.

كما أقيمت في دمشق سنة 1997 ندوة دولية تحت عنوان “آفاق تنمية فنون الزخرفة في حرف العالم الإسلامي اليدوية”، وتتواصل الجهود في هذا الاتجاه لمواجهة زحف الحضارات الأجنبية على العمارة الإسلامية، ومنها إنشاء مدرسة بالقاهرة لتخريج المتخصصين في فن الزجاج المعشق بالجص.

ومن أعمال فن الزجاج في العصر الحديث مسجد النور بحي العباسية بالقاهرة الذي أنشئ سنة 1992 على الطراز المملوكي، وبه خمس قباب يبلغ قطر الواحدة 14 مترا وارتفاعها خمسة أمتار.

وقيل إنها تسمى قمرية إذا كانت دائرية، وشمسية إذا كانت غير ذلك، ولعلها سميت قمرية لأنها تضيء المباني نهارا بضوء ناعم كضوء القمر، أو أنها تضيء المنازل ليلا بنور القمر. وربما سميت شمسية لأنها تمنع أشعة الشمس القوية.

وما أشبه الزجاج في المنشآت بالعيون في وجوه الكائنات حيث تضفي عليها جمالا واكتمالا. وقد بدأ استخدامه في الحضارات القديمة، وقبل وصول بلقيس ملكة سبأ أمر سليمان عليه السلام الجن فبنت له قصرا عاليا من الزجاج أثار بعظمته وروعته دهشة بلقيس حتى ظنت وهي تدخله أنها تخطو على الماء وأدركت بلقيس الحقيقة الكبرى، بأن الملك لله، ولا معبود سواه فتركت عبادة النجوم وآمنت بالحي القيوم.